تُعَدُّ الصيدلة من العلوم التي ابتكرها المسلمون، وأسهموا فيها إسهامات واضحة يشهد العالم كلُّه بها؛ حيث جعلوها علمًا تجريبيًّا قائمًا على الدراسة والملاحظة، وتتَّصل الصيدلة -وهي علم يبحث في العقاقير وخصائصها وتركيب الأدوية وما يتعلَّق بها- اتصالاً وثيقًا بعِلْمَيِ النبات والحيوان؛ إذ إن معظم الأدوية ذاتُ أصل نباتي أو حيواني، كما ترتبط ارتباطًا قويًّا بعلم الكيمياء؛ لأن الأدوية تحتاج إلى معالجة ودراية بالمعادلات والقوانين الكيميائية، كما تُكْمِل الصيدلة علم الطبِّ الذي يُشَخِّص المرض، ويَصِفُ العلاج، ويحتاج إلى مَنْ يُرَكِّب له ذلك الدواء ويصنعه.
والحقُّ أن الصيدلة كانت من العلوم التي جذبت عظيم انتباه علماء المسلمين، فاستطاعوا أن يميِّزوا عصر حضارتهم باعتباره أوَّل عصر من عصور الحضارة عُرِفَتْ فيه المركَّبات الدوائيَّة بصورة علميَّة وفعَّالة وبطريقة جديدة، حتى نستطيع مع غيرنا أن ننسب بلا أدنى حرج علم الصيدلة إليهم، ونقول إنه اختراع عربي (إسلامي) أصيل ؛ فقد أضافوا إلى الأدوية التي كانت معروفة قبلهم مركَّبات عديدة من اختراعهم، وألَّفوا أوَّل كتاب في العقاقير .
ورغم أن شعوب ما قبل التاريخ اكتشفوا قدرة بعض النباتات على تسكين آلامهم وشفائهم من بعض الأمراض، وربما يكونون قد لاحظوا أيضًا التهام بعض الحيوانات المريضة لبعض النباتات وشفائها، ومن ثَمَّ قاموا بتناول هذه النباتات نفسها عند مرضهم، إلاَّ أن ذلك لم يكن عِلْمًا قائمًا ذا أصول ومبادئ يقاس عليها.
وتُعَدُّ لوحة الصلصال التي يرجع تاريخها إلى عهد الحضارة السومرية في الشرق الأوسط -عام 2000 ق.م- أوَّل سجلٍّ مكتوب لاستعمال الأدوية، وبهذه اللوحة اثنتا عشرة وصفة طبِّيَّة، وكذلك يحتوي قرطاس مصري يرجع تاريخه لعام 1550 ق.م على أكثر من سبعمائة دواء، وقد استعمل قدماء الصينيين والرومان الكثير من الأدوية، ويُعَدُّ الرومان أوَّل مَنْ قاموا بافتتاح صيدلية وكتابة أوَّل وصفات طبِّيَّة تُحَدِّد كَمِّيَّة كلِّ مادَّة يحتوي عليها الدواء.
ولكن على الرغم من استعمال القدماء للعديد من الأدوية، إلاَّ أن معظم علاجاتهم لم تكن ناجحة، وقد يرجع الشفاء الناتج عن تعاطي بعض هذه العلاجات الطبيعية إلى أن بعض الأمراض يُشفى المريض منها تلقائيًّا بعد مُضِيِّ عدَّة أيام من حدوثها؛ مما يدفع بعض الناس للظنِّ بأن الشفاء قد يرجع إلى تلك العلاجات، وعلى الجانب الآخر علينا أن نعترف بأن هناك عددًا من الأدوية النافعة التي اكتشفها القدماء؛ فقد استعمل قدماء الإغريق والرومان الأفيون لتسكين الآلام، واكتشف قدماء المصريين زيت الخروع لعلاج الإمساك، كما اكتشف الصينيون أكل الكبد لعلاج فقر الدم .
وعندما جاء الإسلام ووجد العالَمَ على هذه الحال؛ فأَوْلى اهتمامًا كبيرًا لصحَّة الإنسان، ودعا إلى التداوي، وأشار إلى بعض العلاجات والأدوية على سبيل المثال، ومن ذلك قول الله تعالى: "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ "، فتحرَّكت العقول للبحث في الأمراض وطُرُقِ علاجها.
ثم جاءت أحاديث النبي لتؤكِّد على ضرورة التداوي فكان حقًّا على المسلمين أن يبحثوا عن العقاقير التي تشفي الأمراض؛ فرسولنا القائل للأعراب عندما سألوه : يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال : "تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ: الْهَرَمُ" . كما قال عاصم بن عمر بن قتادة: سمعت جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: سمعت النَّبيَّ يقول: "إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ -أَوْ يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ- خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ تُوَافِقُ الدَّاءَ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِي" . فانطلق المسلمون من رؤية إسلامية خالصة ليكتشفوا ويُجَرِّبوا كل أنواع العقاقير للوصول إلى الدواء الناجح الفعال، الذي جعله الله شفاء للأمراض.
ولم ينطلق المسلمون من فراغ؛ بل أخذوا كل ما كَتَبَهُ اليونانيون عن الصيدلة، ولكنهم لم يَكْتَفُوا بنقله، بل طوَّروه وحوَّلوه إلى علم جديد قائم على التجربة، فاعتنَوْا بكتاب: (المادَّة الطبِّيَّة في الحشائش والأدوية المفردة) الذي وضعه ديسقوريدس العين زربي (80م)، وترجموه عدَّة مرات؛ أشهرها اثنتان: ترجمة حنين بن إسحاق في بغداد، وترجمة أبي عبد الله الصقلّي في قرطبة، وفي وقت لاحق قام الصيادلة المسلمون -بفضل خبرتهم وممارستهم- بالزيادة على هذا الكتاب، واسْتِدْرَاك ما فات ديسقوريدس، ومن ثَمَّ بدأ التأليف والتصنيف بغزارة في الصيدلة وعلم النبات، وكان من ذلك (معجم النبات) لأبي حنيفة الدِّينَوَرِيِّ (ت 282هـ - 895م)، و(الفلاحة النبطية) لابن وحشية (ت318هـ - 930م، و(الفلاحة الأندلسية) لابن العوام الإشبيلي، فقد استفاد المصنِّفُون في علم الأدوية كثيرًا من هذه الكتب وأمثالها.
ويكمن سِرُّ تأصيل هذا العلم ونسبته إلى المسلمين في أنه لَمَا نَقَلَ المسلمون أسماء الأدوية المفردة (النباتية) من كتب اليونان والهند وفارس لم يستطيعوا التَّعَرُّف على كثير منها، وحتى تلك التي تَعَرَّفوا عليها لم يقفوا على خصائصها؛ لذا لم يكن هناك بُدٌّ من الاستعاضة عنها ببديل مَحَلِّيٍّ؛ فلجئوا منذ وقت مبكر إلى التأليف فيما سمَّوْهُ أبدال الأدوية، ووضعوا مصنَّفات خاصَّة بتلك التي لم يُشِرْ إليها ديسقوريدس وجالينوس، وغيرهما، واستفادوا في هذا الشأن من العقاقير الهنديَّة والفارسيَّة، إلاَّ أن الحاجة للبديل المحلِّيِّ كانت ضرورة اقتصادية وانتمائية، عبَّرَ عنها البيروني في عِتَابه للصيادلة بقوله: "لو كان منهم ديسقوريدس في نواحينا لصرف جهده على التَّعَرُّف على ما في جبالنا وبوادينا، ولكانت تصير حشائشها كلها أدوية…" .
واستجابة لمثل هذه الحميَّة جَرَتْ بعض محاولات للاستفادة من الأعشاب المحليَّة؛ كان من بينها في بادئ الأمر تصنيف ما يشبه المعاجم على هيئة جداول تحتوي على أسماء النباتات المختلفة باللغات العربية، واليونانية، والسريانية، والفارسية، والبربرية، بشرح أسماء الأدوية المفردة، ومن المحاولات التطبيقية في هذا المجال ما قام به رشيد الدين الصوري (ت 639هـ - 124م)، الذي كان يَخْرُجُ إلى المواضع التي بها النباتات يُرَافقه رسَّام، فيشاهد النبات ويسجِّله ثم يُرِيه للرسَّام في المرَّة الأولى وهو في طَوْرِ الإنبات أو لا يزال غضًّا، ثم يريه إياه في المرَّة الثانية بعد اكتماله وظهور بذره، وفي الثالثة بعد نضجه ويبسه، ويقوم الرسام بتصويره في جميع هذه الأطوار .
ولعلَّ من أهمِّ مآثر المسلمين في بدايتهم لهذا العلم أنهم أدخلوا نظام الحسبة ومراقبة الأدوية ، ونقلوا المهنة من تجارة حُرَّة يعمل فيها مَنْ يشاء، إلى مهنة خاضعة لمراقبة الدولة، وكان ذلك في عهد المأمون، وقد دعاه إلى ذلك أن بعضًا من مزاولي مهنة الصيدلة كانوا غير أمينين ومدلِّسين، ومنهم من ادَّعى أن لديه كل الأدوية، ويُعطون للمرضى أدوية كيفما اتُّفِقَ؛ نظرًا لجهل المريض بأنواع الدواء؛ لذا أمر المأمون بعقد امتحان أمانة الصيادلة، ثم أمر المعتصم من بعده (ت 227هـ) أن يُمْنَحَ الصيدلاني الذي تثبت أمانته وحذقه شهادة تُجِيزُ له العمل، وبهذا دخلت الصيدلة تحت النظام الشامل للحسبة، وقد انتقل هذا النظام إلى أنحاء أوربا في عهد فريدريك الثاني (607-648هـ/1210-1250م)، ولا تزال كلمة مُحْتَسِب مستخدمة في الإسبانية بلفظها العربي حتى الوقت الراهن، وكان يُنَاط بمفتِّش رسمي في كل مدينة الإشراف على الصيادلة وكيفية تحضير العقاقير، وقد يَسَّرَ ذلك للصيدلة أن تَرْتَقِيَ بوضوح علمًا قائمًا بذاته؛ ممَّا جعل الصيادلة ينتقلون إلى مملكة النبات التي وجدوا فيها مجالاً خصبًا للعمل؛ فزُرِعَت النباتات الطبية بشكل منتظم، وَفْقَ شروط خاصَّة في مزارع خاصَّة رعاها الحُكَّام، وجلبوا لها البذور اللازمة من كل مكان يطلبه الصيادلة، وذلك ما فعله عبد الرحمن الأول في قرطبة، ووَفْقَ تنظيم مهنة الصيدلة أصبح في كل مدينة كبيرة عميد للصيادلة يقوم بامتحانهم، كابن البيطار في القاهرة، كما فَرَضَ الدستورُ الجديد على الأطباء أن يكتبوا ما يصفون من أدوية للمريض على ورقة سمَّاها أهل الشام الدستور، وأهل المغرب النسخة، وأهل العراق الوصفة، وبذلك كان المسلمون أوَّل من أنشأ فنَّ الصيدلة على أساس علمي سليم، وأقاموا الرقابة على الصيدليات والصيادلة من خلال وظيفة الحسبة .
وقد زاد الأمرُ إحكامًا بتولِّي سنان بن ثابت الطبيب أمر الحسبة؛ حيث تحوَّل هذا النظام إلى امتحان ومحاسبة ومراقبة دورية؛ للأوزان والمكاييل، وتفتيش الصيدليات مرَّة كل أسبوع، ومن بين الطرق التي طبَّقُوها لمعرفة الأدوية المفردة وفاعليتها: الإحراق بالنار أو السحق، وفحص الرائحة واللون والطعم. وقام بعض الأطباء باختبار مدى فاعلية العقاقير على الحيوانات قبل إعطائها الإنسان؛ ومن ذلك تجربة الزئبق على القرد التي قام بها الرازي، كما كان ابن سينا يَذْكُرُ مع كل عقار خصائصه وأوصافه، ونجد ذلك جليًّا في كتاب: (منهاج الدكان) لكوهين العطار، الذي جمع عمل ابن سينا في هذا الصدد في فصل سمَّاه: "امتحان الأدوية المفردة والمركَّبة، وذِكْرُ ما يُسْتَعْمَل منها وما لا يُسْتَعْمَل"، وقد أورد كوهين العطار في هذا الفصل الطرق المستعملة في ضبط معايير جودة العقاقير، بالإضافة إلى فصل عن المدَّة الزمنية التي لا تعود صالحة للاستعمال بعدها، والأوصاف المميِّزة للأدوية وأنواعها، وما تُغَشُّ به، وكيفيَّة كشف هذا الغش عن طريق الأوصاف الحسيَّة والفيزيائيَّة للدواء .
وبازدهار صناعة الصيدلة وجد الصيادلة المسلمون مجالاً خصبًا للإبداع، الذي انتهَوْا فيه إلى تركيب عقاقير من البيئة المحلية ذات أوزان معلومة مُبَسَّطة، وقطعوا شوطًا كبيرًا عندما استفادوا من علم الكيمياء في إيجاد أدوية جديدة ذات أثر في شفاء بعض الأمراض؛ كاستخراج الكحول، ومركبات الزئبق، وملح النشادر، واختراع الأشربة والمستحلبات والخلاصات الفطرية، بالإضافة إلى ذلك قادهم البحث الجادُّ إلى تصنيف الأدوية استنادًا إلى منشئها وقُوَّتها، كما قادتهم تجاربهم إلى أدوية نباتية جديدة لم تكن معروفة من قبل كالكافور، والحنظل، والحناء .